القِــــــــدر
كان القِدر ما زال يغلي على المنصب و النارُ من تحته تتوهج صانعة ً لنفسها ظلاً على الحائط ! , كانت ملامح الظهيرة
تتضح شيئاً فشيئاً بإقتراب الشمس من منتصف السماء و لن يجروء أحد على الخروج في مثل هذا الوقت من العام حيثُ
القيظّ الشديد . شهر تموز الذي تغلي فيه الماء بالكوز خُصص عند أهل حيّ " الصفصاف " للنوم أو للتجمّعات العائليّة فيأخذُ
الرجال إحدى الزوايا للعب الورق و النساء تذهب في حديثها عن الطبخ و اللباس و الوضع الماديّ المزري أما الصبيّة فهم
مشغولون بلعبة " بيت بيوت " لعبة يقع الإختيار على إحدى الفتيات لكي تكون عروساً و أحد الفتيّة عريساً لها و من ثم تبدأ
مراسم العرس فيُزفّ العريسين إلى بيتهما و هو مكان تم تحديده مسبقاً تحت الدرج . هكذا زُفتْ هند إلى سيف كان هذا الأخير
من أكثر الأطفال خجلاً يحمّر وجهه و تحديداً عند الخديّن مباشرةً , لم يخطر بباله أنه سيكون عريساً لهند تلك الحسناء , منذ
نعومة أظفارها و مما زاد موقفه صعوبة في حالة رفضه إصرار الصبيّة الذين ما لبثوا يصيحون بأعلى صوتهم بإسمه , و
يقولون سيف لهند وهند لسيف و المباركة واجبة للعروسيّن . كان التجمّع في ظهيرة ذلك اليوم في بيت " أبو جميل " له من
الذكور : جميل الإبن الأكبر , عيد و سيف عريس ذلك اليوم , و من الإناث نور و فاتن و لم يحالف الحظ أحداً منهم بالدخول
إلى المدرسة إلاّ عيّد و مع ذلك لم يكن بالطالب المجتهد .
حيّ فقير مثل حي " الصفصاف " لا يكاد أهله شبع اللقمة و هم في ذلك سيّان , حالهم حال الأحياء الفقيرة المجاورة لهم مثل
" حيّ الرمان " و " أبو صادق العليّ " و غيرها ممن حملتْ في بطونها عائلات تنام و تستيقظ على أنشودة الجوع و الجهل
و المرض , و كما جرتْ العادة فعلى العائلة المستضيفة تقديم شيئاً من الطعام و الشراب و لو كان يسيراً ككرم منها اتجاه منْ
داسوا بساطها . بعدما غنّى الأطفال أهازيج الكِبار في الأعراس و دبك بعض الصبيّة تلك الدبكة الشعبية التي تقوم لها الدنيا
و لا تقعد , كان موعد غداء العرس , فأشارتْ فاتن إلى أختها نور بجلب قِدر فارغ من المطبخ كي يكملوا اللعبة وفق أصولها و
فيما انشغلتْ فاتن بإكمال التصفيق وسط الأصوات التي بدأت ترتفع أكثر فأكثر دخلتْ نور المطبخ و هي تجول بعينيها المكورتين
أرجاء المطبخ و قد استطاعتْ صاحبة الأربع سنوات من ملاحظة القِدر الموجود على المنصب فاقتربتْ منها و بدأت بتحريكه فكان
ثقيلاً و غير قابل للحركة و لم تجدّ بداً من أن تبحث عمّا يعاونها فلم تجد غير قطعة خشب كانت أمها قد أعدّتها لإسناد إحدى خزائن
المطبخّ , و هكذا وصلتْ أناملها الصغيرة إلى مقبض القِدر الذي انسالتْ شربته ناراً على وجه الطفلة مخلفّة آثاراً تطول مع مرور
الأيام , لم يسمعها أحد لأنها لم تقدر على الصراخ حتى ! ..