هو جرول بن أوسٍ، ولد في بني عبس ، ولقب الحطيئة لقصره وقربه من الأرض، ويكنى أبا مليكة ، وكان شاعر مخضرم ، وكيف ما كان فإنه كان رقيق الإسلام، لئيم الطبع.
وكان الحطيئة جاور الزبرقان بن بدرٍ وهو سيد من سادات بني تميم ، فلم يحمد جواره، فتحول عنه إلى بغيضٍ فأكرم جواره، فقال يهجو الزبرقان ويمدح بغيضاً:
ما كان ذَنْبُ بَغِيضٍ أَنْ رَأَى رَجْلاً ... ذَا حاجَة عاشَ في مُسْتَوْعَرٍ شَاسِ
جاراً لِقَوْمٍ أَطـالُوا هُونَ مَنْــزِلِه ... وغــادَرُوهُ مُقيماً بينَ أَرْمَاسِ
مَلّـوا قرَاهُ وهَرَّتْهُ كِــــلاَبُهُمُ ... وجَرَّحُوهُ بأَنْيابٍ وأَضْــرَاسِ
دَعِ المَـــكَارمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ... واقْعُدْ فإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِى
ولهذا خبر؛ ذكرت الرواة: أن الزبرقان بن بدر استعدى على الحطيئة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: هجاني بقوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي
فقال عمر: ما أرى هذا هجاءً؛ وكان أعلم بذلك من كل أحد، ولكنه أراد درء الحدود بالشبهات. فقال الزبرقان: هذا حسان بن ثابت. فقال: علي بحسان، فأنشده الشعر. فقال: ما هجاه يا أمير المؤمنين ولكن سلح " خرء عليه"! J ، فأحضر الحطيئة، وقال: هات الشفرة أقطع لسانه ؟ فاستشفع فيه فحبسه، فكتب إليه من الحبس:
ماذا تقول لأفراخ بـذي مَرَخٍ ...زغبِ الحواصِل لا ماء ولا شجرُ
ألقيت كاسبَهم في قعر مظلمـةٍ ... فاغفرْ عليك سلامُ الله يا عمرُ
أنت الإِمامُ الذي من بعد صاحبِهِ ... ألقى إليك مقاليدَ النُّهَى البشرُ
لم يؤثــروك بها إذ قدَّموك لها ... لكن لأنفسِهم كانت بك الأُثَرُ
فامنُنْ على صِبيةٍ بارمل مسكنُهم ... بين الأباطح تَغْشاهم بها القِرَرُ
أهلي فـدَاؤُكَ كم بيني وبينهُم ... من عَرْض داوِيةً تَعْمَى بها الخُبُرُ
فبكى عمر وأحضره. فقال: قد والله يا أمير المؤمنين هجوت أبي وامرأتي وأمي. قال: وكيف ذلك ؟
قال قلت لأبي:
لحَــاكَ اللهُ ثم لحَاكَ حقّاً ... أَباً ولحَــاكَ من عَمٍّ وخالِ
فنعِمْ الشَّيْخُ لَدَى المَخَازِى ... وبِئسَ الشَّيْخُ أَنْتَ لَدَى المَعَالِى
جَمَعْتَ اللُّؤْمَ لا حَيَّاكَ رَبِّى ... وأَبْـوابَ السَّفَاهةِ والضَّلاَلِ
وقلت لأمي:
تَنَحَّىْ فاقْعُـدِى مِنِّـى بَعِيداً ... أَراحَ اللهُ مِنْكِ العالَمِينَا
أَلَمْ أُوِضح لَـكِ البَغْضاءَ مَنى ... ولكِنْ لا إِخالُكِ تَعْقِلينَا
أَغِرْبالاً إِذَا اسْتُودِعْــتِ سِراً ... وكانُوناً على المُتَحَدَّثِينَا
جَزاكِ اللهُ شَراً مِنْ عَجْــوزٍ ... ولَقَّاكِ العُقُوقِ مِنَ البَنينَا
حَيَاتُكِ ما عَلِمْتُ حَيَاةُ سَوْءٍ ...ومَوْتُكِ قد يَسُرُّ الصَّالِحينَا
وقلت لامرأتي:
أطوّف ما أُطــوّف ثم آوي ... إلى بيت قعيــدته لكاع
واطلعت في بئر فرأيت وجهي قبيحاً فقلت:
أبت شفتـاي اليوم إلاّ تكلّما ... بسوءٍ فلا أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهـاً قبّح اللّه خلقه ... فقبّح من وجهٍ وقبّح حامله
فتبسم عمر J، وقال: فإن عفونا عنك، أتهجو بعدها أحداً ؟
قال: لا يا أمير المؤمنين، وعلي بذلك عهد الله ! فقال: لكأني بفتىً من قريش قد نصب لك نمرقة، فاتكأت عليها، وأقبلت تنشده في أعراض المسلمين. قال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين.
فأطلقه الخليفة واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، فتوقف عن الهجاء، ولكن يقال أنه رجع للهجاء بعد مقتل عمر بن الخطاب.
قال بعض الرواة: فوالله لقد رأيته عند عبيد الله بن زياد على الحال التي ذكر عمر، فقلت له: لكأن أمير المؤمنين عمر كان حاضراً لك اليوم، فتأوه. وقال: رحم الله ذلك المرء، فما أصدق فراسته !