الشك الديني لدى الشباب.. لماذا؟
تتيقظ في عقلية الشاب المحاكمة والنقد والتعليل وتنمو بشكل ملحوظ، ويكتسب من المجتمع كثيراً من الخبرات الاجتماعية والمفاهيم العقلية المجردة، ويقف أمام ما يُعرض أمامه موقفاً يتصف بالشك فيه ريثما يتقبله العقل ويقتنع به.
إن الدين في حياة المرء هو اقتناع وانفعال، فيه أمور نأخذها بالمنطق والبرهان، وفيه أمور نسلم بصحتها ونتقبلها عن طريق الإيحاء.
وهنا نلاحظ أن الشاب يناقش في هذه الأمور الدينية، ويحاول ألا يُدخل في خبراته الدينية الجديدة إلا ما وافق عليه العقل وسايره الواقع المحسوس، يساعده في ذلك ما اكتسب من مفاهيم جديدة حيث تقترب مفاهيمه في مستوياتها العليا من التعميم الرمزي، ولهذا يستطيع الشاب أن يفهم معنى الخير والفضيلة والعدالة بينما يعجز الطفل عن إدراكه لهذه المفاهيم والمدركات، ولذا نرى الشاب ينغمس في مجادلات دينية واسعة النطاق ويتحمس لها كثيراً، لا سيما بعد أن زاد محصوله من الألفاظ والأفكار والمفاهيم، ولذا فكثيراً ما نراه يجادل في أمور دينية للمجادلة في حد ذاتها وتشدقاً بالألفاظ.
يضاف إلى ذلك ما يشعر به مجدداً من أن له شخصية يجب أن يجعل الآخرين يعترفون له بها، وعن طريق المجادلة في غيبيات الدين وما وراء الطبيعة يعتقد أنه يثبت ذاته، ويكتسب احتراماً في نظر الآخرين.
أما الأهل والمجتمع فإنه يفسر سلوك الشاب على أنه عناد وتمرد وشذوذ. وهناك سبباً آخر للشك الديني عند الشباب مثلا:
ليس من الضروري أن يكون مبعث الشك الديني هو نمو العقل وظهور القدرة على النقد، فهو في الغالب نتيجة ظروف شخصية تفعل فعلها دون أن يعيها الفرد، وليست في كل الأحيان نتاج التأمل الفلسفي أو التفكير المنطقي.
و أذكر فيما يلي أقوال شاب في الحادية والعشرين من عمره يصور فيها كيف وقع في الشك، جاء في مذكراته:
((إني شخصياً لا أفرق بين الدين والفلسفة، فإذا كانت لي تأملات دينية فربما تتخللها تأملات فلسفية.
أما نشأة هذه الأفكار، فمنذ سنوات اعتراني تفكير غريب من الوجهة الدينية، وكنت لا أعتقد بوجود إله عادل يحكم بين الناس، وإنما وجدت هذه القوة لكي تصيب الناس في معاشهم وتفسد عليهم سعادتهم، فأحضرت والدتي أستاذاً لكي يرشدني إلى الطريق
القويم في الدين، ولكنني كنت أضيع هذه الدروس في مناقشات حادة.
سألتُ الأستاذ يوماً: إنك تقول أن الله يعلم كل شيء سيحدث قبل حدوثه، فلماذا يدخلنا النار إذن وهو عالم بما سنرتكبه من شر، وكان في إمكانه أن يبعدنا عن الشر ثم لا يعاقبنا بعد ذلك.!؟)).
تكشف مذكرات هذا الشاب بوضوح عن العنصر الانفعالي المصاحب للشك، وحالة الاضطراب والصراع بين الشعور الديني والتفكير. ونستطيع أن نتبين فيها أموراً أربعة:
أولاً ـ أن الشك قد ينبعث عن كارثة كتلك التي حلت بالحالة السابقة، إذ لم يكن شكه إلحاداً، أو إنكاراً لوجود الله تعالى، بل جاء نوعاً من العتب على الله تعالى الذي أمات والده مخلفاً أمه بآلامها، هو شك شخصي صرف ليس نتيجة تأمل منطقي.
ثانياً ـ أن الشك جعله يتوهم وجود تناقض في بعض الأفكار الدينية.
ثالثاً ـ أن مشكلة هذا الشاب هي شدة ارتباطه بأمه وشقاؤه من أجلها، وعذابه عذاباً شديداً إن فعل ما يعتقد أنه يخالف رغبتها، وهذا يدلنا على أن علاقة شخصية ما قد تؤثر في تشكيل فكرة الشاب عن الدين.
رابعاً ـ أن عدم الاهتداء إلى رأي حاسم في الدين يسبب حالة من الإجهاد النفسي قد يكون لها أسوأ الأثر على حياة المراهق، وكلما كان ضمير الفرد قوياً مسيطراً على أهوائه ونزعاته الغريزية كان الصراع في نفسه أكثر عنفاً وحدة، إذ ينظر إلى الشك في هذه الحالة نظره إلى الخطيئة، ولكنه مع ذلك يظل أخلاقياً متحفظاً.
فالشك أيضا ليس انعكاساً لحالة الفرد النفسية فحسب، بل لحالة المجتمع السائدة من حيث الكوارث الاجتماعية أو الاستبداد أو الحروب أو التقلقل... الخ، على أن كثيراً من الشباب يشكون نتيجة تأمل منطقي، وهذا ما يحدث غالباً في نهاية مرحلة المراهقة حين يبرز العنصر العقلي عن ذي قبل.
والذي أراه من جانبي:
أن رغبة الشاب في المجادلات الدينية يجب أن تُشبع في نفسه، ولكن في غير استرسال حتى لا تؤول في النهاية إلى مناقشات عديمة الجدوى، وجدلاً للجدل في حد ذاته.
ومن واجبنا نحن إنه يحسن بنا اعتبار هذه النزعة لا على كونها مظهراً من مظاهر الإلحاد والكفر، بل هي فأل حسن يدل على نضوج الشاب وتحرره في التفكير. إن المراهق في هذه الفترة يحتاج إلى من يشجعه على التحدث في مشكلاته، ويبعد عنه ما يؤرقه من أفكار وشكوك، ولا شك أن أمثال هذه المناقشات تعيد إلى المراهق اتزانه، وتبعث في نفسه الطمأنينة، أما إذا كان سلوكنا نحو هذا الاتجاه، قائماً على العنف والتحقير، فقد يؤدي ذلك في حالات خاصة إلى نوع من الاستهتار الديني.