إن الإسلام مع دعوته للحوار وأمره به ـ إذ هو سنة الأنبياء والمرسلينعليهم الصلاة والسلام ـ ينادي الغرب وأمثالهم أن ينظروا بعين الحياديةوالتجرد من الهوى إلى تعاليم الإسلام ونصوصه الصريحة في الأمر والدعوة إلىالحوار والتفاعل الثقافي بين الشعوب والحضارات ..
الشيىء الذي نريد أن نشير إليه هو أن الإسلام له دوره في تعزيز الحوار بين الحضارات:
تحدث المستشرق العاقل " سان سيمون " عن جانب من جوانب هذا الدور التعزيزي للإسلام في كتابه " علم الإنسان " بقوله:
"إن الدارس لبنيات الحضارات الإنسانية المختلفة ، لا يمكنه أن يتنكر للدورالحضاري الخلاق الذي لعبه العرب والمسلمون في بناء النهضة العلمية لأورباالحديثة "( رشدي فكار: نظرات إسلامية للإنسان والمجتمع، 31).
أما " أوجست كونت " فقد أدرك قدرة الإسلام في التعامل واحتواء جميع العقول والفلسفات والأفكار الإنسانية .. وعبّر عن ذلك بقوله :
"إن عبقرية الإسلام وقدرته الروحية لا يتناقضان البتة مع العقل كما هوالحال في الأديان الأخرى ؛ بل ولا يتناقضان مع الفلسفة الوضعية نفسها ؛لأن الإسلام يتمشى أساساً مع واقع الإنسان ، كل إنسان، بما له من عقيدةمبسطة ، ومن شعائر عملية مفيدة ! "( رشدي فكار: نظرات إسلامية للإنسانوالمجتمع، 31).
أما " شبرل" عميد كلية الحقوق بجامعة "فيينا"، فيقول في مؤتمر الحقوق سنة 1927 :
"إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) إليها ، إذرغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً؛ أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيينأسعد ما نكون ؛ لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة "( عبد الله ناصح علوان :معالم الحضارة في الإسلام، 155).
إنّ الإسلام هو دين الحواروالتعارف والاعتراف بالآخر، وهو شريعة تطوير القواسم المشتركة بين الإنسانوأخيه الإنسان، وإيجاد السّبل الضامنة لتحقيق التعايش والسلام والأمن ، بلويحفظ الإنسان من أن يحيا حياة الإبعاد والإقصاء ونكران الآخر. لهذا أمرالإسلام بالحوار والدّعوة بالتي هي أحسن، وسلوك الأساليب الحسنة ، والطّرقالسليمة في مخاطبة الآخر. قال تعالى: (ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَبِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَأَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَأَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ( النحل ،الآية: 125). على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الحوار في الإسلام على أساسالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، إنه منهج حضاري متكامل فيترسيخ مبادئ الحوار بين الشعوب والأمم . يقول القرضاوي " ومن الملاحظ علىالتعبير القرآني المعجز في الآية : أنه اكتفى في الموعظة بأن تكون(حسنة)،ولكنه لم يكتف في الجدال إلا أن يكون بالتي هي( أحسن). لأن الموعظة ـغالباً ـ تكون مع الموافقين، أما الجدال فيكون ـ عادة ـ مع المخالفين؛لهذا وجب أن يكون بالتي هي أحسن . على معنى أنه لو كانت هناك للجدالوالحوار طريقتان: طريقة حسنة وجيدة ، وطريقة أحسن منها وأجود، كان المسلمالداعية مأموراً أن يحاور مخالفيه بالطريقة التي هي أحسن وأجود "( يوسفالقرضاوي : خطابنا الإسلامي في عصر العولمة،40 ،41 ).
و قالتعالى أيضا : (وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَأَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَأُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْوَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)( العنكبوت ، الآية: 46). فالحوار ممكنلأنّ هناك قواسم مشتركة ، وهناك مجال للتّفاهم والتّقارب ، وهي الإيمانبما أُنزل على المسلمين وغيرهم ، فالمصدر واحد وهو الله . فليتعارفواوليعرفوا بعضهم ، ومن ثم فليتقاربوا وليتعاونوا على ما هو صالح لهم جميعا.فالقرآن يعطينا أسلوب بدء اللّقاء والحوار ، وكيف نستغلّ نقط التّلاقي بينالمتحاورين .فيبيّن الأصول التي يمكن الاتّفاق عليها ويركّز على ذلك فيقول: (قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِشَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِفَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ)(آل عمران،الآية 64)
ثمّ يبيّن الإسلام نوع العلاقة التي يجب أن تسود المسلمينوغيرهم .. إنّها علاقة التّعاون والإحسان والبرّ والعدل . فهذا هو الحوارالحضاري والعلاقة السامية ، قال تعالى: (لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِالّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّندِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَيُحِبّ الْمُقْسِطِينَ)( الممتحنة - الآية: 8.) .
الإسلام يرفض المركزية الحضارية :
ونعتقدمع ذلك أن الإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الحضارات يرفض(المركزية الحضارية) التي تريد العالم حضارة واحدة ، مسيطرة مهيمنةومتحكمة في الأنماط والكيانات الحضارية الأخرى، فالإسلام يريد العالم(منتدى حضارات) متعدد الأطراف، يريد الإسلام لهذه الحضارات المتعددة أنتتفاعل وتتساند ، وتتبادل الثقافات والعلوم والأفكار، في كل ما هو مشتركإنساني عام ، وبما يخدم المصلحة العامة لكل الحضارات ، أما قول الحق تباركوتعالى : " ليظهره على الدين كله " فالمقصود بظهور الدين الإسلامي ليسظهور استبداد أو اتضهاد ديني يمارسه الإسلام على الأديان الأخرى ، أوتمييز عنصري يتعاطاه على الشعوب والأعراق ، بل .. ظهور أستاذية وظهور تفوقيظهر الإسلام في وسط هذه الحضارات مظهر التلميذ المتفوق بين أقرانه !! ذلكالتفوق الرباني الموجود في النظام الإسلامي ، والذي يدفع الإسلامي أن يغزوالعقول والقلوب حتى لا يترك الله بيت مدر ولا وبر حتى يدخله الله هذاالدين يا قومنا إن الإسلام يؤمن بالتعددية الحضارية .. بل ويمارسها.. إنهينكر هذا القسر عندما يرى في تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن اللهتعالى في الكون، قال تعالى: (لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةًوَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةًوَلَـَكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِإِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِتَخْتَلِفُونَ)( المائدة - الآية: 48) . وقال أيضاً: (وَلَوْ شَآءَ رَبّكَلَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)( هود- الآية: 118) .
وهكذا نعتقد أن الإسلام بطبيعته يساعد على نهوضالحضارات الأخرى ، بحيث يتحول العالم إلى منتدى حضاري يحقق التعدديةالحضارية ، لا المركزية التسلطية ..