السلام عليكم ورحمة الله
بسم الله الرحمن الرحيم
حديثا اليوم عن أمر يُقلقُ كلَّ من خلقه الله من البشر إلا من رحم الله عز وجل، يتقاتل عليه الناس ويتنافسون ، من أجله يسرق السارق وتزني الزانية ويرتشي المرتشي، بل ويَقتل الرجل أخاه، ويقاطع قرابتَه وذوي رحمه، هذا الأمر الذي يتقاتل الناس عليه ـ إخوتي الأفاضل
ـ حسمه ربّ العالمين وجعله لنفسه جل وعلا.
ذلكم هو أمر الرزق ، فما أكثر ما يتقاتل الناس على أرزاقهم، ويتنافسون في طلب أمرٍ فرغ الله عز وجل منه وقضاه. وهذه قضية هامة ينبغي للعبد المؤمن أن يعتقدها وأن يفهم أربعة أصول فيها ، فإذا استقرَّت هذه الأصول الأربعة في قلب المؤمن فإنه يطمئن ولا يجزع على أمر قد فرغ الله عز وجل منه.
أما الأصل الأول ـ أيها الأحبة ـ فهو أن الله عز وجل تكفَّل بأرزاق العباد، ولم يجعلها عند أحد من خلقه ، فلا يُطلب الرزق إلاَّ منه جل وعلا، وأقسم على ذلك بنفسه الكريمة جل وعلا فقال: وَفِى ٱلسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22، 23]، فبين جل وعلا أن رزق العباد جميعًا، بَرِّهِم وفاجرهم، مؤمنِهم وكافرهم، كل أرزاقهم عنده جل وعلا في السماء، ثم أقسم على هذه الحقيقة فقال: فَوَرَبّ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ أي: هذا الذي أخبر جل وعلا عنه، مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ أي: كما أنكم تنطقون لا تشكون في هذه الحاسة التي وهبكم الله إياها وهي من أوضح الحواس كما يقول أهل العلم، فلو كان الرجل نظره ضعيفًا لا يدرك الناس ذلك، ولو كان شمه معدومًا لا يدركون ذلك، ولو كان حسه معدومًا لا يدركون ذلك أيضًا، لكنه لو لم يكن فصيحًا منطلقَ اللسان لأدركوا ذلك من أول كلمة، فالنطق أوضح الحواسّ ، فضرب الله مثلاً بهذه الحقيقة، وأنها حق واضح لا مِرية فيه، مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ، لا تشكون في نطقكم، فهذا قسم من الله عز وجل لعباده بأن الأرزاق عنده وحده جل وعلا، فليطمئن قلب العبد المؤمن.
وثاني هذه الأصول التي ينبغي أن يعرفها العبد المؤمن أن الرزق نفسَه هو الذي يطلبُك وليس العكس ، يقول : (( إنَّ الرزق ليطلب صاحبه أكثر مما يطلبه أجله ))، الناس لا شكّ عندهم أنهم سيموتون وأن آجالهم آتية، الرزق يطلبك أكثرَ مما يطلبك أجلك كما أخبر الذي لا ينطق عن الهوى صلوات ربي وسلامه عليه.
وأما الأصل الثالث ـ معاشر المؤمنين ـ فهو أن هذه الأرزاق قسمها رب العالمين وفرغ منها ، فحينما يستكمل أحدنا في بطن أمه أربعة أشهر ويُخلَّق يُرسَلُ الملَكَ فيؤمر بكتابة أربع، أولها بكتابه رزقُه ثم أجلُه ثم عملُه ثم شقيٌ أم سعيد، فيكتب الله عز وجل أرزاق العباد ويقسمها لهم، وهذا أمر فرَغ الله عز وجل منه، وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَاوَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60].
خاتمة هذه الأصول أن يعلم العبد المؤمن أن هذه الأرزاق قسمها الله بعلمه وحكمته ولطفه بعباده، فلم يقسمها على الخلق بمعيار التقوى ولا الصلاح، وإلا لكان أغنى الخلق أحبُّهم إليه وسيدهم جميعًا نبينا صلوات ربي وسلامه عليه، فهذه الأرزاق قال الله عنها: وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ [الشورى:27]، أي: هو جل وعلا خبير بعباده بصير، يعلم ما يصلحهم، ولذلك كان المصطفى يُقسم لأصحابه ويخبرهم: (( والله، ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم ))، فوالله ما الفقر يخشاه النبي على أصحابه، وإنما يخشى عليهم أن تفتح عليهم الدنيا. فلا تجزعن ـ يا عبد الله ـ إن رأيت عبدًا وسع الله عليه في رزقه، فهذا المال فتنة عظيمة، لن تزول قدم هذا العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أمرين يتعلقان بالمال ، لا يسأل عن شيء مرتين وسؤالين سوى هذا المال: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟
فهذا الأمر ـ معاشر المؤمنين ـ وهو أن الله يقسم الأرزاق بعلمه وخبرته، فهو الخبير البصير العليم اللطيف بعباده، يجعل قلب المؤمن مطمئنًا، فلا ينظر إلى رجل وسع الله عليه، ويقول: كيف يؤتي الله هذا الفاسق الفاجر من أموال الدنيا؟! وتقول العامة كلمةً كفريه: يُعطي الحَلَقَ لمن لا أُذُن له، (كيعطي الحمص غير اللي ما عندو ضراس)؟؟ وكذَبوا، بل إن العليم الخبير يعطي من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب، فوسَّع على فرعون وهامان، ثم جعل مصيرهما النار وبئس القرار.
فتقسيم الأرزاق ـ أيها المؤمنون ـ بعلم الله وحكمته، وكم من رجل صالح، بل وكم من طالب علم كان من الأتقياء الصالحين فوسع الله عليه في رزقه ففتن ، وأصبح من أهل العقارات، وترك العلم، وترك طلب العلم والدعوة إلى الله عز وجل، وكم من رجل فقير دائم الدمعة ، منيب إلى ربه عز وجل، لا تفوته صلاة في المسجد، يسارع إلى مرضات الله. فالفقر ـ عباد الله ـ قد يكون أحيانًا خيرًا لهذا العبد لو كان يعلم ، فتضييق الرزق يكون أحيانًا لصالحك، وتوسعته يكون فيه فساد عريض لهذا العبد لو علم.
أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقني وإياكم غنى القلب، فإن غنى القلب أعظم الغنى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.